العلاقات السورية الأمريكية بين المد والجزر
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة سياسية واقتصادية وعسكرية إلى جانب الاتحاد السوفيتي، وبرز نشاطها بعد أن بدأ الصراع مع المعسكر الاشتراكي الذي تزعمه الاتحاد السوفيتي ضمن سياق ما عرف بالحرب الباردة بينهما.
أولت الولايات المتحدة اهتماماً خاصاً بالمنطقة العربية الغنية بالنفط، ولكي تعمل على حماية مصالحها في هذه المنطقة ولمنع وقوعها ضمن النفوذ السوفيتي، فإنها أخذت تتقرب إلى دول المنطقة ومنها سوريا، حيث حاولت الولايات المتحدة ضم سوريا إلى دائرة نفوذها نظرا لما لسوريا من أهمية سياسية وجغرافية واستراتيجية خاصةً ووقوعها بالقرب من منابع النفط في المنطقة، وكذلك لكونها دولة مجاورة لـ (إسرائيل) التي كان الحفاظ على وجودها وأمنها من المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة.وبالرغم من ذلك فمنذ ستّة عقود والعلاقات الأمريكية – السورية حافلة بالصعوبات الشديدة التعقيد والازدواجيات التي يصعب توصيفها في صفاتٍ محدّدة وتعريفات دولية مفهومة . فقد كانت الجمهورية العربية السورية ، خلال الحرب الباردة، الحليف القريب من الاتّحاد السوفييتي، وقد استغرق الخطاب الأمريكي في نقد الدولة السورية بما يبرزها، بالعين الغربيّة، بلداً يفتقر لأدبيات حقوق الإنسان ويرفض بعناد الحريّات الأساسية والديمقراطية التي شاعت وتشيع شعائر بقاء الدول والأنظمة في العالم وخصوصاً في الشرق الأوسط . وبعد سقوط البرجين في 11 سبتمبر/ أيلول ،2001 تفاقمت عدائية واشنطن حيال دمشق إلى درجة أنّ الأنظار، بعد سقوط بغداد، انتقلت حكماً إلى انتظار إسقاط الدولة في دمشق .
وعلى الرغم من ذلك فقد حدثت كثير من التقاربات السياسية بين الدولتين فقد شاركت سوريا الولايات المتحدة في الحرب الخليجية عام 1991 بعدما كان كلينتون يحاولإقامة مشروع سلام بين دمشق وتل أبيب في عام 1990 أجهض بسبب رفض الكيان الصهيوني للحق السوري المتمثل ” بالأرض مقابل السلام والتزام الكيان الصهيوني بالعودة إلى حدود 1967″ وكان أول رئيس أمريكي يقرع باب الأب المؤسس حافظ الأسد لهذا الغرض في تشرين الأول 1994 بعد انقطاعٍ دام عشرين سنة بين الدولتين . كما ساعدت دمشق الولايات المتحدة في ملف مكافحة الإرهاب من خلال تقديم معلومات أمنية ثمينة للإدارة الأمريكية منذ سقوط البرجين في ملف ابن لادن وفي ملفّات الإرهاب المتجوّل . وانخرطت الولايات المتحدة في حوار دبلوماسي مع دمشق من دون أية شروطٍ مسبقة تنفيذا لتوصية فريق بحثي أميركي حول العراق . هذه التوصية دفعت بأربعة من أعضاء الكونغرس الأمريكي بزيارة السيد الرئيس بشّار الأسد في عام 2006 تلتها زيارة مماثلة لنانسي بيلوزي رئيسة البرلمان في عام 2007 على رأس وفد من سبعة برلمانيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بينهما توم لنتوس وهنري وكسام المعروفان بتحيّزهما الفاضح لإسرائيل. وكانت النتيجة ردود فعل إسرائيلية لافتة تلحّ على انتهاج سياسة عدائية لا حوارية مع سوريا.
وربما يفسر هذا التقارب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ,فقد فقدت سورية الحليف الاستراتيجي الكبير الذي كانت تستند عليه في مواجهتها مع الولايات المتحدة الأمريكية و حليفتها إسرائيل , و كان لذلك الأثر الكبير على السياسة الخارجية السورية التي وجدت نفسها وجها لوجه أمام المخططات الأمريكية و الإسرائيلية,وقد اعتبرت فترة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون من أسوأ المحطات في مسار العلاقات السورية الأمريكية , فقد رسخت الولايات المتحدة الأمريكية فيها علاقاتها مع إسرائيل و بدأ في عهده ما أصبح معروفا فيما بعد “بالشراكة الأمريكية الإسرائيلية ” وجاء الاجتياح العراقي للكويت وكانت الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة إلى أوسع مظلة تأييد عربية لتوفير الشرعية السياسية لتدخلها في الكويت , و هو ما دفع واشنطنلمحاولة التقارب من دمشق , و كانت مشاركة سورية في مؤتمر مدريد للسلام إشارة أخرى على رغبة سورية في تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعد انتخاب الرئيس بشار الأسد للدورة التشريعية الأولى عام 2000زارت أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك دمشقالأمر الذي أكد رغبة الولايات المتحدة في استمرار علاقاتها مع سوريا التي استمرت سياستهاعلىنهج الأب المؤسس حافظ الأسد الرافضة للسلام وفق النموذج الصهيوأميركي مع إسرائيل الذي سمته دمشق “بسلام الضعفاء”مما سبب تفاقم أزمة العلاقة بين البلدينوخصوصا بعد احداث 11 ايلولوو صلت إلى مرحلة من التوتر الغير معهود في تاريخ العلاقات الدولية , و تميزت بتصعيد اللهجة الأمريكية ضد سورية و إطلاق التهديدات في مختلف التصريحات الصادرة عن المسئولين الأمريكيين , فبعد تصريحات أرميتاج بإمكانية قيام الولايات المتحدة الأمريكية بعمل عسكري ضد سورية , أثارت تصريحاته احتجاجات شديدة اللهجة من قبل الحكومة السورية التي استدعت ممثلة بوزارة الخارجية السفير الأمريكي بدمشق “يتودورقطوف” لإبلاغه احتجاجها على تصريحات أرميتاج , لكن هذا الأخير كرر تلك التصريحات بالنسبة إلى حزب الله في لبنان و إيران , ثم أتت بعد ذلك تصريحات مساعد وزير الخارجية السابق “بولتون”الذ ي أضاف سورية إلى دول” محور الشر” عندما تحدث في إحدى محاضراته عن ما وراء محور الشر.
و مع سقوط بغداد عام 2003 زادت الولايات المتحدة الأمريكية من تصعيدها و قد حذرت الدول التي تتهمها بالسعي لامتلاك أسلحة غير تقليدية و من بينها سورية و إيران و كوريا الشمالية بأن تأخذ العبرة من درس العراق , و هذا التصريح الصادر عن أحد أبرز المتشددين في الإدارة الأمريكية ” جون بولتون ” حيث كانت الخارجية السورية ترى البصمات الإسرائيلية خلفه فجاء ردها بأن ” إسرائيل تنشر معلومات مضللة إلى واشنطن ضد سورية ومن وجهة نظر سورية في تقييم الدور الأمريكي في عملية السلام يغلب عليه عدم الرضا عن هذا الدور المتحيز إلى جانب إسرائيل , فلم تتردد دمشق من مهاجمة الدور الأمريكي و سياستها ووصفتها بالعدائية للعرب و أنها أكثر قربا إلى إسرائيل . وقد كان كل ما مارسته الولايات المتحدة الأمريكية من تهديدات ضد سورية كان جزءا من سياسة أوسع للولايات المتحدة تتمثل في إعادة ترتيب المنظومة السياسية و الاقتصادية العالمية, بما ينسجم مع مصالح واشنطن و قد برز ذلك في الحديث الأمريكي عن ” القرن الأمريكي الجديد”وهنا يأتي إلحاح عدد من المسئولين الأمريكيين ضد التهديدات لسورية عن ” محيط جديد أو” درس العراق ” و لكن دمشق تدرك جيدا أن التعاون لا يقف عند العراق بل يتعلق بالملف الفلسطيني و الإسرائيلي خصوصا من خلال التصريحات الإسرائيلية التي كانت تدفع بالأزمة من وراء الكواليس , فقد بدا واضحا لدمشق أن لائحة المطالب الإسرائيلية من سورية و التي تقدمها من خلال واشنطن كأنها تخوض حروب إسرائيل بالوكالة ,وبذلك أندمج المخطط الإسرائيلي بالمخطط الأمريكي , و أصبح العراق الساحة الوحيدة التي تنطلق منها المخططات الأمريكية و الإسرائيلية تجاه المنطقة العربية و إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط.
إن أسباب ودوافع العداء السوري الأمريكي كثيرة ولكن أبرزها الصراع العربي الإسرائيلي ودعم سوريا للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية والموقف السوري من احتلال العراق والعلاقات السورية الإيرانية فقد احتلت إسرائيل المرتفعات السورية “الجولان” خلال حرب عام 1967, و ما زالت سورية متمسكة بحقها في استرداد الجولان و إجلاء إسرائيل من كافة الأراضي العربية المحتلة . حيث وجهت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس انتقادات شديدة لسورية ووصفتها بأنها تمثل ” عقبة أمام التغيير و السلام ” في المنطقة , مؤكدة على إن بلادها متمسكة بمشروع الشرق الأوسط , بالإضافة إلى استياء الولايات المتحدة مما وصفته بالدور السلبي الذي تقوم به دمشق في عملية السلام , و أيضا ترفض سورية بشدة خريطة الطريق لإدارة الصراع العربي الإسرائيلي و ذلك لان هذه الخريطة جاءت من الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل دون إشراك الأطراف العربية , كما إن هذه الخريطة تستهدف التسوية على حساب العرب و تستهدف إقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة , وتشير إلى المقاومة على أنها إرهاب فلسطيني كما إنها تتدخل في شؤون الشعب الفلسطيني كما ويرتبط الدور السوري بدعم حزب الله اللبناني تجاه العدو الإسرائيلي ورفض دمشق أن تتراجع عن مثل هذا الالتزام تجاه مقاومة الصراع الإسرائيلي , و كذلك لا ننس الدعم الذي توليه سوريه لحركة حماس في فلسطين ,إلا إن الولايات المتحدة ترى ان هذا الدعم هو دعم للحركات الإرهابية و التي تهدد إسرائيل أضف إلى ذلك العلاقة الاستراتيجية بين دمشق وطهران خصوصا بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 حيث إن سورية وإيران انتهجا سياسة موحدة للدفاع عن مصالحمها ووجودهما في المنطقة فرفضت كل من سوريا وإيران الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية و الشرق الأوسطية , حيث إن هذه الإستراتيجية تسعى الهيمنة على الدول العربية و شعوبها لخدمة العدو الصهيوني و تكريس شرعية وجوده في الأراضي الفلسطينية و توسعه على حساب الأراضي العربية المحتلة و أيضا حماية المصالح الأمريكية و استمرار المنطقة في خدمة الاستعمار الغربي و الصهيوني.
ومنذ أن طفت الأزمة السورية على السطح عام 2011 أعلنت واشنطن فرض عقوبات اقتصادية على العديد من المسؤولين السوريين في نيسان عام 2011 وذلك بعد أقل من شهر على بدء أولى انتشار المجموعات المسلحة المناهضة للدولة السورية ،ففي منتصف أيار من نفس العام بدأت واشنطن بالتدخل الوقح في الشؤون الداخلية لسورية فخيرالرئيس الامريكي السابق باراك أوباما الحكومة السورية مابين قيادة مرحلة انتقالية أو التنحي، وكنتيجة لعدم رضا الدولة السورية بالتدخل الخارجي وتأكيدها على أن تقرير مصير سورية هو حق الشعب السوري فقط قررت الإدارة الأمريكية فيما بعد فرض عقوبات على الرئيس الأسد شخصياً. وبعد ذلك اتخذت الإدارة الأمريكية السابقة قرارها باللجوء الى الحل العسكري في تعاملها مع الوضع فى سوريا خصوصًا مع تزايد حاجة المجموعات الإرهابية المتمركزة في بعض المناطق السورية للدعم اللوجيستي والسياسي نتيجة تقهقرها أمام ضربات الجيش العربي السوري وحلفاءه ، لكن سرعان ما تراجع باراك اوباما فى منتصف عام 2013 عن تنفيذ قراره بقصف البنى التحتية للنظام السوري وقد قام الرئيس الحالي ترامب بتفيذ مثل هذه الضربات على عدة مناطق للجيش السوري كان أشدها وقعا الضربة التي وجهتها البحرية الأميركية على مطار الشعيرات والذي لاقى ردود فعل دولية غير راضية أظهر الولايات المتحدة الأميركية في صورتها الحقيقة الداعمة للمنظمات الإرهابية في سوريا سعيا منها لحماية مصالح إسرائيل في المنطقة.
واستمرت التجاذبات في السياسة الأميركية فتارة تعلن الخارجية الأميركية عن رغبتها في إقامة حوار مع سوريا وتارة تهدد بضربة عسكرية فقد قالت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هالي” يختار المرء المعركة التي يريد خوضها.. وعندما ننظر إلى هذا الأمر نجد أنه يتعلق بتغيير الأولويات، وأولويتنا لم تعد التركيز على إخراج الأسد من السلطة”.
وأعلن المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبايسر، أن على الولايات المتحدة “قبول واقع” حكم الرئيس بشار الأسد في سوريا.وقال: “بخصوص الرئيس الأسد، هناك حقيقة سياسية علينا أن نقبلها فيما يخص
موقفنا الآن.
لا شك في أن القيادة السورية تعلم جيدا أن الطرف الأمريكي و من وراءه الطرف الصهيوني لا يملك رغبة جدية في تحقيق سلام واقعي على الجبهة السورية , خاصة أن الصهاينة لا يريدون التخلي عن الجولان بسهولة كما قال رئيس كيانهم , لكن الطرف السوري عود نفسه , و منذ سنوات طويلة على أن يواجه أمنيات و تمنيات ومخططات الخصوم من خلال توظيف متبصر و متعقل للأوراق التي يمتلكها ’ لان الثبات و الواقعية السياسية من شأنهما أن يفسدا كل المناورات و الدسائس التي يحيكها الخصوم والأعداء
و يمكن القول من جهة أخرى أن أمريكا تعرف جيدا أن أية تسوية على المسار الفلسطيني ستتطلب الاستعانة بالدور السوري , فحتمية ارتباط المسارات لا تمثل بالنسبة للقيادة السورية حلما يتوجب البحث عن آلياته التطبيقية , بل هي تمتلك بشكل فعلي وسائل سياستها في هذا المجال, كما تمتلك في الوقت نفسه إمكانية الرد على ايه مناورة تريد خلط الأوراق بشكل يضر بمصالحها الوطنية و القومية , لأنها لا تؤمن بالاستراتيجيات التي يتم وضعها انطلاقا من خرائط ورقية , بل تعمل على تشكيل عناصر قوتها انطلاقا من معطيات حقيقية يدعمها الواقع لكي يتوافر لديها بذلك مخزون من الأوراق الفعلية و الفاعلة و ليس ركاما من الأمنيات الشاردة.حسين راغب