لكن، لماذا تركوا وحيدين؟!
لماذا لا يتمّ إغراق البلدتين بمظلات المساعدات، حتى إن سقط بعضها بأيدي الإرهابيين (ولن تشكل أي دعم للإرهابيين، فما لديهم أكثر بكثير من “حاجتهم”)؟! لماذا لم توضع أيّة خطة لفكّ الحصار عن البلدتين أصلاً، والجيش قريب منهم (على مسافة 25 كم فقط من إحدى الجهات)؟!
لا أحد يعرف!
أحد المدافعين عن الفوعة يقول: كلما انتهى الجيش من تحرير منطقة، نتنفس الصعداء متأملين أن “دورنا” قد حان، فإذا بالخطة تقضي إقصاءنا من “البرنامج”؟! يتساءل بقلق: هل تدمر أهمّ فعلاً من الفوعة وكفريا؟!
قائد ميداني في إحدى تشكيلات القوات الحليفة يقول: “للأسف يبدو أن حكومتنا غير مهتمة الآن بكفريا والفوعا، ولا أحد يعرف السبب بالضبط، لكن من المعروف أن للحلفاء دوراً في أي قرار متعلق بهاتين القريتين”، ويتابع: “العام الماضي قام الجيش وحلفاؤه بحملة وصلت إلى الحاضر والعيس، لكن الحملة تراجعت إلى الراشدين والراموسة تحت ضغط هجوم النصرة الإرهابية المعاكس، قبل أن يبدأ سقوط حلب، كانت الحملة تحتاج إلى دعم أكبر بكثير مما تم تأمينه”.
القائد الميداني يضيف: “فك الحصار عن الفوعة وكفريا يحتاج إمكانيات عسكرية كبيرة، سواء بالعتاد أو بالمقاتلين، خاصة أن المسافة بين خطوط الجيش على أطراف حلب وبين كفريا -نحو 25 كم- مكتظة بآلاف الإرهابيين الذين لم يعرف العالم مثيلاً لوحشيتهم”.
“في هذه الحرب توجد استراتجيات لأفضل استخدام ممكن للقوات”، يشرح القائد الميداني، “في الواقع أن إفشال مخطط تركيا في الشمال السوري، وأيضاً المخطط الانفصالي الكردي، لها أولوية لخطورتهما، والجيش وحلفاؤه غير قادرين على خوض كل هذه الجبهات معاً”.
ضابط عامل في الجيش السوري يعلق قائلاً: “أيا يكن الدعم فهو قليل مقارنة بصمود أهالي البلدتين”، ويتابع: “للأسف أن المحيط حول القريتين مغلق بالإرهابيين بشكل تام، لذلك قد لا يكون الدعم كافياً لصمودهما، قد يكون الحل الأفضل إنسانياً هو العمل على إجلاء سكانهما، ريثما يتمكّن الجيش من تحرير إدلب كاملة”.
ضابط آخر يقول بوضوح: “نحن لا نعرف كيف تخطط القيادة العليا بخصوص التحركات العسكرية لهذه المنطقة أو تلك، وهذا طبيعي، فالحرب على مستوى البلد كله ليست في جبهة محدودة”، لذلك لا يعرف هو لماذا بقي فك الحصار عن القريتين بعيداً عن جدول الأعمال، لكنه يعبر عن ثقته بأن “دورها آتٍ”!
جندي شارك في معارك عدّة يؤكّد: “إن أتتنا الأوامر بفك الحصار عن البلدتين، فسنفكّه كالأسود، أنت لا عرف كم لصمود هاتين البلدتين من أثر في عقولنا وقلوبنا جميعا”.
ناشط في الإعلام الميداني يقول ضاحكاً: “إبقاء الفوعة وكفريا في هذا الوضع مقصود، السلطات تريد الضغط على بعض حلفائها بهذه المأساة الإنسانية”.
فما رأي أهالي القريتين الصامدين كجياد أصيلة؟
“نريد إخراج الأطفال والنساء ما دام أحد غير قادر على مساعدتهم بلقمة الطعام، أما نحن الرجال، فسندافع عن أرضنا حتى آخر رمق”. يقول مقاتل من ميدان الدفاع عن الفوعة وكفريا. آخر يطلب بوضوح “فك الحصار بصفته واجباً على الدولة تجاه مواطنيها الشرفاء”، كما أن واجبها “تأمين المستلزمات الضرورية لاستمرار الحياة في البلدتين السوريتين بأي وسيلة كانت”. يؤكد قائلاً: “هذا واجب الدولة وليس منّة منها”.
إحدى النساء اللواتي خرجن في أول دفعة “تبادل” (مع مضايا)، فيما بقي زوجها وأهلها في الفوعة، تصرخ: “لماذا ظلمتمونا كثيراً؟ حتى المنظمات الدولية تخلت عنا؟ أين هي اليونيسيف من مأساة أطفالنا؟”.
امرأة أخرى تقول بهدوء مقهور: “ما الفائدة؟ لا أحد يريد أن يسمع بحالنا! لا أحد يريد أن يصدق ما نحن فيه!”.
إخلاء البلدتين! هذا يعني أن تصير محافظة إدلب بالكامل تحت سيطرة الإرهابيين، فلم يبقَ فيها سوى هاتين البلدتين خارجتان عن سيطرة ثورة الإخونج، بعض السكان يقولون: لا بأس، لنخرج الآن ونعود حين تعود إدلب “خضراء” كما كانت، بعضهم الآخر يرفض مكتفياً بإجلاء الجرحى والمرضى، لكنهم جميعاً يخشون، إن خرجوا، أن يلاقوا مصير النازحين: العيش بذل!
مع كل هذه الوقائع، لا بد أن يخطر السؤال على البال: لماذا لم تتحرك السلطات السورية بشأن هاتين البلدتين؟ بل حتى إعلامياً بالكاد تتم الإشارة إليهما! والدبلوماسية السورية تذكرهما أحيانا، لكن كـ”مثالين” لا غير! رغم أن كل عناصر “حملة عالمية” مستندة إلى الاعتبارات الإنسانية صالحة في تفاصيل حياتهما.
أحد الشباب يقول: “السبب هو الاتفاقيات السرية بين روسيا وتركيا”، فهذه الاتفاقيات برأيه تمنع دعم القريتين بإسقاط مواد غذائية وصحية، فكيف بعتاد وذخيرة؟! تهرّب الكثيرون من الإجابة عن سؤالي إن كانوا يظنون بأن الحكومة لا تدعمهم لأنها تريد صفقة مع إرهابيي إدلب يخرج بمقتضاها أهالي القريتين من أراضيهم، بعد أن يكونوا قد استنفذوا نهائياً ولم يعد بإمكانهم رفض هذه الصفقة!
كتب أحدهم ضمن “غروب” مغلق على وسائل التواصل الاجتماعي: “الجيش السوري يتقدم نحو بحيرة الأسد.. بعد كل معركه نقول إدلب الوجهة التالية.. اللعبة أصبحت مكشوفة.. كفريا والفوعة المحاصرتين ورقة رابحة جدٱ”! دون أن يشرح ما يقصده بـ”الورقة الرابحة”.
لكن أحدهم قال فكرة ملفتة: “لا أظن أن السبب هو صفقة. أظن أنهم (الحكومة) يريدون استمرار معاناتنا لأنها تفيدهم بتصويرهم على أنهم (حماة الأقليات) بما أننا مصنفين على الشيعة”!
رفض جميع من تحدثت إليهم الخوض في أي جانب يتعلق بالسلاح أو الميدان، أصروا على أن هذه أمور سرية ليست للنقاش، لكن العديد منهم أكدوا بجمل متشابهة: “لا تقلق.. لدينا ما يكفي لصمودنا حتى آخر رمق”!
أسأل على الهامش إن حملت النساء السلاح ليشاركن رجالهن الدفاع عن القريتين، يجيب أحد الشباب مبتسماً مع “سمايلي” بعضلات: “لا، مستحيل مادام لدينا شباب”.. ويتابع ساخراً بضحكة لم تفارق كل من تحدثت معهم ومعهن من البلدتين، رغم الألم: “عايفينن احتياط”!
هل ينتظر أهالي البلدتين المحاصرتين شيئاً من السوريين العاديين؟ أي ممن ليسوا أصحاب قرارات في أي شأن لا سياسي ولا عسكري ولا غيره؟
يفضح “بوست” ساخر ما ينتظره هؤلاء: “خبر عاجل: في اجتماع عاجل لكافة علمائنا الأفاضل، قرروا أن يكون هناك اعتصام مفتوح في كل من دمشق وريفها وحمص واللاذقية وحلب، مطالبين المسؤولين عن ملفّ الفوعة وكفريا بإسقاط الخبز ومواد الإغاثة لهم بالسرعة الفائقة… وبشرط رئيس هو: بعد أن يستشهد جميع أهلنا في المدينتين.. وذلك لسهولة العمل لديهم والربح الكبير الذي سيتقاضونه من إقامة مجالس العزاء…”!
“فقد قِفوا إلى جانبنا، ارفعوا الصوت حول معاناتنا”، هو كل ما يطلبه الأبطال المحاصرون في الفوعة وكفريا من السوريين، لكن نبرتهم تشي بأن الطلب هو “رفع عتب”، فبعد عامين ونصف من الحصار فقدوا الثقة بأن أحداً يهتم بحالهم.
عشرات الفيديوهات نشرت على الإنترنت عن حصار الفوعة وكفريا، آلاف الصور لشهداء أطفال ونساء وشيوخ وشباب، وحملة الكترونية بعنوان “أنقذوا الفوعة وكفريا”، كلها لم تحرك ساكناً في ضمير “الأمم المتحدة” مدعية الإنسانية، لكنها أيضاً لم تحرك عجلة دعم القريتين من قبل الحكومة السورية!
القصص التي عاشها أبطال الفوعة وكفريا، من رضيعهم إلى عجوزهم، تحتاج إلى مجلدات لسردها، بعضها مثير للسخرية، كما حين قامت إحدى “اللجان” المعنية بالإغاثة بإرسال “جواكيت ملونة” تصوروا بها وهم يبتسمون.. علق أحدهم على الصورة :”لجنة… ارتأت أن هذه الجواكيت أنسب مايرسل إلى المجاهدين في الفوعه وكفريا والمحاصرين هناك، لاسيما أن كل تحركّهم (اللجنة) بالسيارات! ولايوجد عندهم برد، لأن الغاز والمازوت والكهرباء متوفره”!
بعضها مترع بالأمل والغضب، كحال مئات الأزواج والعشاق الذين فرقهم الحصار، سواء من كان منهم قبل الحصار خارج القريتين، أو النساء اللواتي خرجن مقهورات في التبادل مع مضايا! فحفروا حبهم بالدموع والرصاص،
وجميعها تحزّ أوتار قلوب من بقي فيه بعض من إحساس!
الفوعة وكفريا ليست قصة قريتين محاصرتين في بحر من الإرهابيين الذين يدعمهم صهاينة الإسلام (الأخونجية وشركاؤهم) وصهاينة اليهودية فحسب، بل يدعمهم أيضاً متشدقو “الإنسانية والحضارة” حكام باريس ولندن وبرلين وواشنطن، وبالتأكيد حكام أنقرة والرياض والدوحة.
قصة آلاف من الناس كان بإمكانهم أن “يستسلموا” من اليوم الأول، كما فعل كثيرون غيرهم في مناطق أخرى، لكن كرامتهم ووطنيتهم منعتهم من الانحدار إلى هذا الدرك، ففوجئوا بأن دولتهم التي يؤمنون بها “ترميهم” على الرفّ أيضاً!
قصة أبطال لا ينامون الليل ولا النهار كي يحموا أهاليهم، لكنهم ما زالوا واثقين أن جيشهم لن يخذلهم، وأنه سيأتي اليوم الذي تتشابك الأيادي معاً لتعلن النصر.
ملاحظات:
*- لم يتم التلاعب بأي من أقوال من التقاهم هذا التقرير، إلا ما يقتضيه الاختصار أو التكثيف أو تجنب التكرار، وفي الوقت نفسه حرصنا على أن تبقى آراء الناس كما هي، سواء اتفقنا معها في “وكالة أنباء آسيا” أم اختلفنا، حرصاً على الأمانة والمصداقية التي وعدنا بها الناس.
**- أثناء إعداد هذه المادة، خرجت من كفريا حالتان مرضيتان مع أولادهما. ودخلت شاحنة معونات يشرف عليها الهلال الأحمر السوري،
*- أخفيت أسماء جميع الذين التقيناهم في هذا التقرير، أخذاً في الحسبان عدم التسبب بأي ضرر لأي منهم، خاصة في الظروف التي تعيشها سورية اليوم.
بسام القاضي
2017/3/19