حَفَلَ شهر أيار في منتصف القرن العشرين بأيام مفصلية حملت تغييرات كبيرة على الصعيدين العالمي والمحلي، فمع نهاية الحرب العالمية الثانية بإعلان استسلام ألمانيا النازية في التاسع من أيار من عام 1945، تبدى واقع جديد في العالم مع نشوء توازنات دولية جديدة ، ورفعت الشعوب التي كانت محكومة بالاستعمار الأجنبي في مختلف القارات صوتها مطالبة بالحرية والاستقلال، بحيث تأخذ بيدها مقدراتها الوطنية وتتحكم بمسار تطورها وحياتها على الصعيد البشري والاقتصادي ومساراتها السياسية، وفيما حاول الاستعمار القديم الاحتفاظ بمواقعه السابقة، كانت شعوب العالم تحاول رفع الاستعمار عن بلادها ومن بينها شعوبنا العربية التي أحبطها سابقاً حجم الخديعة التي تعرضت لها إبان الحرب العالمية الأولى، وتحويل مسار الثورة العربية الكبرى من إنشاء دولة عربية واحدة، إلى تقسيم العالم العربي كغنيمة حرب بين القوى الكبرى، متمثلة آنذاك بالاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي.
وفي إطار سعي شعب سورية بكافة أطيافه ومكوناته نحو كسب استقلال سوريا مر هذا الشعب العظيم بأيام مثقلة بالجراح التي حفظها التاريخ، وكما عرفت سورية في السادس آيار من عام 1916 طعم الجراح التي أوقعها أحمد جمال باشا السفاح والمستعمر العثماني في لحوم شهداء الحرية والعروبة، فإنها كانت تنتظر موعداً مماثلاً في شهر أيار نفسه، ولكن هذه المرة على يد المستعمر الفرنسي الذي أطلق وحشيته وشراسته ضد مدينة دمشق التي كانت تطالب الحلفاء المنتصرين بتحقيق وعودهم التي وَعَدوا بها إبان الحرب العالمية الثانية، بأنهم سيَمنحون الحرية للمستعمرات ما إن يتم الانتصار على النازية في أوروبا.
ولمّا تراجع الاحتلال الفرنسي عن وعوده، وأراد أن يفرض الأمر الواقع على شعب سورية ، انتفض الشعب السوري بكل طبقاته وفئاته ورفض الإذعان لإملاءات القوة الاستعمارية، فكان ما كان من تدمير دمشق واستشهاد عناصر حامية البرلمان السوري، الذين سطروا أروع صور البسالة في مقارعة العدوان الفرنسي والدفاع عن رموز وطنهم وحريته واستقلاله فما كان من المحتل الفرنسي إلا أن يقصف مدينة دمشق كما وقصف البرلمان أثناء اجتماع أعضاءه من ثكناته العسكرية بالمدفعية الثقيلة فقتل الأبرياء والثائرين ضده
على الرغم من أن هذه المجزرة ما تزال ذكراها المروعة ماثلة في أذهان كل السوريين حتى الأن ، فإن جرائم المرتزقة الأجانب التي تدعمها دول معروفة منذ عام 2011 طغت عليها، وبات السوريون والعالم يشاهدون ما هو أشد فظاعة من تلك المجزرة .وإن واقع سوريا الحالي ومن خلال الأزمة التي تمر فيها يفرض علينا كسوريين أن نستذكر تلك الحادثة لأسباب كثيرة فالمراقب لأزمة سورية الحالية والمجزرة الدولية التي تمارسها دول الاستعمار الجديد بأدواتها الجديدة القديمة تطابق واقع المجزرة الفرنسية بحق نواب الحرية والاستقلال فالمراقب لواقع الدول التي تدعي حكوماتها أنها عربية خاضعة بشكل علني إلى سلطة القواعد الأميركية والسفارات الصهيونية المبنية على أراضيها بل أنها وفوق كل ذلك تدفع أموالها التي هي من حق الشعوب العربية لتبقى القواعد الأميركية مدافعة حامية لتلك الحكومات المأجورة المرتزقة ولم تكتفي تلك الحكومات بممارسة طقوسها الخضوعية في نطاق حدودها بل أنها وسعت من مشاريعها العبودية لكي تتعاون بشكل سافر ووقح مع الولايات المتحدة الأميركية الكيان الصهيوني والدول الغربية كما وأعلنوا عن الشراكة مع عصابات الإرهاب والتكفير والتخريب في الحرب العالمية على سورية لتدمير وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية فبدأت بإرسال المال والسلاح والمقاتلين إلى أرض سوريا بهدف تحويل سوريا بشكل أو أخر إلى مستعمرة أميركية كما هو الأمر في بلادهم حالهم كحال أخوة يوسف الذين كرهوا صدق أخيهم فحاولوا قتله.
ولو أردنا أن نحصي عدد المجازر التي أسهمت تلك الحكومات في وقوعها على امتداد أراضي الجمهورية العربية السورية من الحسكة إلى الرقة إلى دير الزور واللاذقية وإدلب وحماه لاكتشفنا أنهم سبقوا المحتل الفرنسي في وحشيته وجرائمه هذا المحتل القذر الذي كان يعيث فساداً خلال استعمارها لبلادنا وخرج بقوة السلاح وقوة المقاومة واليوم عاد من جديد حيث تشكل فرنسا مرة جديدة رأس حربة في هذه الهجمة التي يشاركها فيها الكثير من الدول لضرب استقرار سورية وربما يكون الفرق الوحيد بين الواقع الحالي هو أن فرنسا عندما دخلت سورية آنذاك استقدمت جنود سنغاليين بقيادة فرنسية وكانت المظاهرات قائمة في كل الدول العربية تضامنا مع سوريا أما في وقتنا الحالي وفي ظل هذه لأزمة فإن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ودول أوربية استقدمت مقاتلين من دول عربية لتدمير حياة الشعب السوري بل وفوق ذلك انبرت بعض وسائل الإعلام الضخمة والمعروفة كالجزيرة القطرية والعربية السعودية لتضلل الشارع العربي وتدعم الحملة الأرهابية الهمجية البربرية على الشعب السوري كما وقدمت الأردن كامل التسهيلات والدعم للمسلحين على أراضيها للمرور إلى سوريا الأردن الذي يشرب حتى الأن من الماء السوري ولكن ورغم ذلك لم يستطيعوا إلى تدمير سوريا سبيلا فالجيش العربي السوري وبدعم من القوى الرديفة وباحتضان شعبي كامل قدم تضحيات أوقفت مشاريع الهدم والتدمير والقتل .
فعندما نريد أن نستذكر هذه البطولات في الأمس البعيد نشيد اليوم بتضحيات رجال الجيش العربي السوري وقوات الأمن الداخلي في المعركة التي تقودها سورية اليوم ضد المجموعات المسلحة ومموليهم وداعميهم والجهود الكبيرة التي يبذلونها لإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع الوطن والتاسع والعشرون من أيار ليس هو اليوم الوحيد الذي أثبت فيه رجال الجيش العربي السوري وقوى الأمن الداخلي محبتهم وولاءهم لوطنهم فمنذ ذلك التاريخ وحتى الآن وفي كل يوم وعبر صمودهم وتضحياتهم مستمرون في أداء واجباتهم خير أداء بكل اقتدار ومسؤولية وشعور بالواجب سواء في مكافحتهم وتصديهم للإرهاب أو في ممارستهم لمهامهم في تحقيق الأمن والأمان للمواطنين فمواكب شهداء القوى المسلحة مستمرة منذ أيار 1945 إلى أيار عام2017
واليوم وبعد مضي اثنا وسبعين عام يقف مجلس الشعب كصرح معماري عريق يعبق بالتاريخ والبطولة ولكل حجر منه حكاية، وفي كل ركن من داخله أسطورة، على جدرانه وبين جنباته ذكريات وأحداث ومشاهد تراكمت مع أيام وليال قديمة سجل من خلالها رجالات سورية تاريخاً عريقاً ناصعاً واليوم تأتي الذكرى الثانية والسبعون للعدوان الفرنسي على مبنى البرلمان السوري في دمشق وسورية تشهد عدواناً جديداً ولكن بأدوات مختلفة.وحتى الأن لا تزال قاعة الشهداء في مجلس الشعب تضيء بدماء شهداء العدوان الفرنسي
من رجال الشرطة والدرك الذين استشهدوا دفاعاً عن البرلمان في 29 من أيار لعام 1945 و لا تزال قاعة الشهداء معبراً ومنارة على طريق استقلال سورية وخلاصاً من نير المستعمر الفرنسي.
وكل مَنْ يزر هذه القاعة تترسخ لديه القناعة بأن بطولة رجال حامية البرلمان في ذلك الوقت أصبحت درساً في الشهادة والتضحية لجميع السوريين ومثالاً يحتذى في البطولة والفداء، والجيش العربي السوري ما يزال يضحي حتى اليوم من أجل عزة وكرامة سورية والوصول بها إلى بر الأمان ليسطر من جديد دروسا
في الوفاء والإباء لبلاد العالم أجمع فتحية للجيش العربي السوري وتحية إلى هذا الشعب العظيم .
حسين راغب