المقاومة الثقافية في مواجهة التطبيع
بدأ مفهوم التطبيع بالتداول السياسي العربي منذ اتفاقية كامب ديفيد 1978 ـ 1979، وازداد حضوره على الساحة العربية بعد اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة، والتطبيع في القانون الدولي يعني عودة العلاقات إلى طبيعتها بين الدول، أو أن تقوم علاقة بين عدوين سابقين، أو ما بين طرفين أو دولتين إلى طبيعتها، بعد خلل أصاب هذه العلاقات على أن يصبح التعامل بينهما عادياً بعد انقطاعه أو فتوره.
إن المسوقين لمفهوم التطبيع قفزوا فوق حقيقة تاريخية وهي أن “دولة إسرائيل” لم تكن موجودة حتى تدعى الدول المجاورة إلى إعادة العلاقة معها، و ما يهدف إليه هؤلاء من وراء التطبيع هو تكريس الهيمنة الكاملة للكيان الصهيوني على مجمل دول المنطقة، مع نسيان ما قام به هذا الكيان من اغتصاب للأرض العربية في فلسطين المحتلة وسوريا ولبنان ومصر، وأن مجرد وجوده على أرض فلسطين يعتبر عدواناً صارخاً على حقوق الأمة، ولا يمكن إقامة علاقات معه مادام موجوداً
على أرض فلسطين.
ولعل أخطر أنواع التطبيع هو التطبيع التربوي والثقافي، والذي تسعى “إسرائيل” إلى التركيز عليه أكثر من العلاقات السياسية والاقتصادية، ففي ظل هذا التطبيع يصبح من واجب الدول العربية إعادة النظر في مناهجها التربوية، وإعادة كتابة التاريخ نفسه لأجيال جديدة.
ويسعى الكيان الصهيوني إلى إخضاع الثقافة للتطبيع لأنه يدرك أن العمق الثقافي المستند إلى مخزون روحي ضخم، وإلى رسالة إنسانية خالدة يبقى العنصر الأقوى في المقاومة الذاتية للأمة على مدى السنوات، والتطبيع الثقافي ليس مشروع هيمنة ثقافية فحسب، بل هو في الحقيقة مشروع تدمير وتفكيك ثقافي للمنطقة العربية، وتجريد الأمة من ثقافتها، لكي تصبح شبيهة بثقافة الكيان الصهيوني (دون ثقافة موحدة)، وهذا المفهوم ليس مفهوماً سليماً أو تصالحياً يسعى لعودة الأمور إلى طبيعتها، بل هو بكل وضوح مفهوم عدواني وهمجي وتفتيتي يلقي الضوء على الطبيعة العدوانية والهجومية والتفتيتية لكل جوانب عملية التطبيع. ويهدف التطبيع الفكري والثقافي لإيجاد حالة من القبول الفكري والنفسي للوجود الصهيوني، من خلال ما يسمى بإيجاد الثقة والتخلص من مظاهر الرفض والكراهية للوجود الصهيوني، ليصبح الصهاينة أصدقاء بعد تخلي الأمة عن هويتها، والتنازل عن سيادتها وأرضها وثرواتها، وتصبح الأمة عوناً لأعدائها على نفسها، ويهدف الغزو الثقافي إلى تفتيت الإرادة، ويشّرع وجود العدو، ويعمّد وجود العدو العنصري في ضمير الأمة، في الوقت الذي مازال يرفع شعار “شعب الله المختار” وحقه في الأرض من النيل إلى الفرات، إلى جانب وقوفها إلى نداءات الحرية، والتضحية، والبسالة، والحب، والرحمة والأحلام، في الوقت الذي تمجد فيه الثقافة الصهيونية القتل والاحتقار لكل ما هو غير يهودي، فالتطبيع في الفكر الصهيوني هو فيما بين المسلح والمنزوع السلاح، لأن الثقافة الصهيونية لا تعترف أن لباقي الناس حقوقاً متساوية، وهم يطالبون الآخرين بقبول الفكر العنصري الصهيوني، وتبديل الفكر الثقافي العربي الإسلامي المعتدل الإنساني.
وبالتالي فالتطبيع بهدف إضعاف العمل السياسي والاجتماعي والثقافي الطليعي والجماهيري العربي وتراجع فاعليته الاجتماعية لحساب مفاهيم التخلف ، التي ستجلب المزيد من الانهيارات والتراجعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وكلها مظاهر تصيب بالضرر البالغ والمباشر مصالح الجماهير الشعبية وتضاعف همومها ومعاناتها ، وهذا يتطلب من كافة الأحزاب والقوى العربية العمل على بلورة مشروع الثقافة والفكر على قاعدة الحفاظ على الهوية العربية دون سواها ، وتسخير جهودها على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمواجهة سياسة التطبيع وبالتالي فنحن بحاجة إلى زمن ثقافة المقاومة ، في مواجهة استمرار حالة الهبوط الاجتماعي و السياسي ، والعمل على تطوير لجان مواجهة التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني ، ورفض ممارسات قوى الإسلام السياسي ، التي تسعى عبر محاولة صياغة مشروعات و نماذج دينية سلفية تسعى إلى الانتشار و التوسع في أوساط الجماهير الفقيرة ، مما يستدعي من كافة القوى والأحزاب العربية التقدمية تفعيل وتطوير دورها في مواجهة هذه الحالة والعمل على توحيد الجهود الثقافية العربية ، في إطار رؤية سياسية ديمقراطية موحدة ، تستجيب لمعطيات العصر ، وتشكل أرضية ننطلق منها على طريق الحضارة البشرية المعاصرة ، مشاركين في الإبداع العلمي ، لا عبيداً لأدواته.
من هنا فإن يجب على المثقف القيام بفضح أساليب الغزو الفكري وكيفية مواجهته، والقدرة على تحليل الواقع وقراءة المستقبل بدقة، والسعي إلى التغيير دوماً، على المستوى الذاتي والجماعي والوطني والقومي والإنساني، والتحليل الصحيح وقراءة الواقع بدقة للتنبؤ بالمستقبل.
إن الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية، والتي حملت زوراً اسم الربيع العربي، الذي كانت نتائجه وبالاً وخراباً على أبناء كل الأوطان التي أصابها هذا الفيروس التفتيتي، والأمة جمعاء، والقضية الفلسطينية بخاصة، وإن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم من عدوان صهيوني بهدف تهجير من تبقى على أرض فلسطين التاريخية ، لم يختلف عما رأيناه عند اجتياح العدو للبنان وتصدي الشعب اللبناني ومقاومته لهذا الاحتلال بعد خروج الثورة الفلسطينية، حيث حقق الشعب اللبناني ومقاومته الباسلة الانتصار التاريخي على العدو، والذي أدى إلى فراره وعملائه من أرض الجنوب المحتلة دون قيد أو شرط عام 2000، وهزيمته العام 2006، دون أن يحقق مكسباً أو ينال جائزة ترضية.
وفي ظل هذه الأوضاع نجد، وللأسف بعد ما جرى في العديد من الدول العربية من أحداث وهجمة إمبريالية صهيونية استعمارية وإرهابية ظلامية، بأن عملية التطبيع أصبحت الحلم عند البعض العربي من مثقفين وملوك وأمراء وفنانين وتجار حيث ينخرون مجتمعاتنا بفتاوى تجيز “السلم” مع العدو الصهيوني حيناً، وتشير إلى “التطبيع” معه حيناً آخر، وتحض على الاقتتال والحرب الأهلية أحياناً أخرى، فالعدو يحاول عبر حربه الناعمة الوصول إلى الأهداف التي عجز عن تحقيقها بالعدوان العسكري المباشر، وهي أشد فتكاً وخطراً من مفاعيل الحرب العسكرية التي تواجه بها قوى المقاومة وشعوبها وأحزابها وقواها عدواً محدداً، وقوة نارية بقوة نارية، في حين أن أدوات الحرب الناعمة، تبدأ بمراكز الأبحاث والدراسات التي تسخر لها مليارات الدولارات، وتحشد لها أكبر الكفاءات العلمية والفكرية، وتمر بوسائل الاتصال والإعلام، ولا تنتهي بالأدوات المحلية على اختلاف مستوياتها ومسمياتها التي تؤدي أدواراً خطيرة.
إنّ من يحاول تبرير التطبيع الذي تشكل خيانة بكل المعايير والمقاييس، وتتحطم أمامه كل الذرائع والمبررات، بالرغم وأن العدو الصهيوني يستهدفنا في وحدتنا ومستقبل أبنائنا، ويسعى جاهداً للسيطرة علينا، وعلى مقدراتنا، وتشريد شعبنا من دياره، ولا يجوز التعامل معه إلاّ من خلال المقاومة بكافة أشكالها، الوسيلة الوحيدة لإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، أي حقه بالعودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.
لذلك فالشعوب العربية وأحزابها وقواها التقدمية والقومية، مطالبة لمواجهة أي شكل من أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني، والأخذ بعين الاعتبار أهمية المرحلة التي تمر بها أمتنا العربية، التي ينخر في جسدها عوامل التجزئة والتخلف والتبعية، مما يدفع بالإمبريالية العالمية، وبتحالف صهيوني، وتواطؤ مع أطراف أغلبية النظام العربي الرسمي، أن تسعى إلى تحقيق أهدافها في الهيمنة والسيطرة على مقدرات الأمة، والوقوف في وجه تحقيق طموحاتها وشطب القضية الفلسطينية.
وقد كان في الفترة الماضية يعتبر التطبيع مع العدو خيانة، لهذا نقول مواجهة الأعداء لا تتمّ بالانفتاح والتبادل ، كما ليس بالتقرب اجتماعياً وثقافياً مع جلاد يغتصب أراضينا ومقدساتنا ويعتدي على شعوبنا، لا سيما أنّ الصراع مع العدو هو صراع وجود لا صراع حدود، لهذا لا بد من تحصين الوضع الداخلي على مستوى كل دولنا والحذر من جريمة التطبيع التي تجري اليوم على كافة القوى العربية مواجهة ومكافحة التطبيع بكل السبل والوسائل، وليعلموا إن المقاومة هي طريق الانتصار الوحيد على الاحتلال ومشاريعه مهما بلغت الظروف فالثقافة هي وعاء الأمة، التي تشكل محددات تكوينها، والتربية التي من خلال فلسفتها، فهي عامل تجديد فعلي للمجتمع، وهي أكثر قدرة على تغيير الواقع، لأننا من خلالها نستطيع أن نحدد إستراتيجية التصدي للعدو.
حسين راغب