بقلم: الدكتور محمد سعيد الطريحي
رئيس أكاديمية الكوفة في هولندا – وصاحب مجلة الموسم
الرجال العظام في التاريخ تظل أعمالهم ومواقفهم محفورة في ذاكرة الشعب ومن هؤلاء العلامة الشيخ محمد حسين راغب الذي كانت تربطه شبكة علاقات واسعة ولقاءات عديدة مع رجالات سوريا والوطن العربي وفي مقدمتهم الرئيس القائد الخالد حافظ الأسد والملك فيصل وعبد السلام عارف وجمال عبد الناصر وخالد العظم والإمام آية الله الخميني، ومحمد باقر الحكيم رئيس مجلس الثورة العراقي، والشيخ محمود شلتوت، والسيد محسن الأمين، وهاشم الأتاسي وخالد العظم، كما كان وكيلاً شرعياً لكل من السادة: السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد أبو القاسم الخوئي، والسيد محسن الحكيم، كما كانت تربطه علاقات صداقة ومحبة وعمل وطني مشترك مع الشيخ أحمد كفتارو ومحمد مهدي الجواهري وأحمد صافي النجفي والشيخ نافع شامية، وكان بيته جامعةً بكل ماتعني هذه الكلمة في العصر الحديث للغةالعربية والشعر والفقه والعقائد وأصول الدين ومحبة الوطن.
وسوف أتناول شخصيته من زاوية العقل المستنير، البعيد عن التمترس المذهبي، والتعصب..
وإذا كانت القاعدة الفكرية القائلة بأن (آفة الرأي الهوى) صحيحة على إطلاقها، فإن بإمكاننا أن نعدل فيها قليلاً لتصبح كالتالي: آفة المجتمعات التعصّب، ولاشيء يؤذي الشعوب ويجعلها تقف بعيداً عن موائد الحضارة، مثل الأيتام حينما يقفون على موائد اللئام.
دعونا نتابع الظروف التي نشأ فيها الرجل العالم المستنير، محمد حسين راغب منذ البداية. ففي نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، بدأت بلدان العالمين العربي والإسلامي تقع تحت سيطرة الاستعمار الغربي، واتخذت هذه السيطرة أشكالاً مختلفة، كالاحتلال المباشر، والوصاية والحماية والانتداب.. وكانت أهدافها المعلنة تطوير هذه الشعوب وانتشالها من حالة التخلف، وأما أهدافها الحقيقية فكانت نهب ثروات هذه الشعوب وامتصاص خيراتها، ثم تركها ملقية على قارعة طريق التاريخ كالخرق البالية، عديمة النفع.
ونتيجة لتلك الأشكال الاستعمارية المتنوعة عمت الفوضى في البلاد، وساد فيها الجهل والتخلف والأمية.. الشيء الطبيعي في مثل هذه الحالات أن يكون أفقُ الناس، على اختلاف انتماءاتهم، ضيقاً، وأن ينزوي الناس في بيوتهم وأماكن عباداتهم، دون أن تكون لهم باتجاه الخارج نوافذ، أو إطلالات، أو جسور، أو مثاقفات، أو مناظرات حوارية.. ولاكتب ولامطابع ولا حركة ترجمة، والثقافة السائدة هي، باختصار: الثقافة الشفاهية القائمة على الحفظ والتلقين واجترار الأفكار البالية..
والشيء الطبيعي، في مثل هذه الظروف الصعبة، القاسية، أن يكون أصحاب الرسالات التنويرية هم من يبادر لمد يد العون للناس وإنقاذهم من أوضاعهم المتردية.. فالمتنورون شموع تحترق لتضيء للناس لياليهم، وتبدد ظلماتهم.. وأما الجاهلون فيفعلون بأنفسهم وبلادهم ما يفعله العدو بعدوه، وربما أكثر من ذلك.
والحقيقة فإن العلماء، في كل زمان ومكان ينقسمون إلى قسمين، الأول علماء الدين، والثاني علماء الدنيا، أعني علماء الرياضيات والكيمياء والفيزياء، والفلك والفلسفة والقانون والصناعة والزراعة وكل ما يفيد الناس في دنياهم.
ولنتوقف قليلاً عند علماء الدين. وهؤلاء أيضاً ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: يضم أولئك الذين يفهمون الدين الإسلامي الحنيف على أنه مجموعة من القواعد والقوالب الجامدة التي لاتقبل الجدل أو المناقشة، ولاينفع فيها غير التشدد والتمترس! وكل واحد من هؤلاء مخلص لمذهبه، ولعشيرته، ولعائلته، ويتعامل مع المذاهب الأخرى، والأديان الأخرى، بطريقة التكفير والتخوين وتسفيه الرأي.
والقسم الثاني: هو العلماء الأجلال الأفاضل الذين يفهمون الدين الإسلامي الحنيف على أنه دين يسر، وكبير، وواسع، وأنه وُجد أساساً لينظم علاقة الإنسان بخالقه، ولينظم أمور الإنسان الدنيوية، ويجعله يعيش بسلام، ويعرف كيف يتعايش مع الآخرين، ويعترف بحقهم في الحياة، والعبادة، مثلما يعترف الآخرون بحقه في الحياة، والاعتقاد، والعبادة.
كان هؤلاء العلماء الكبار منارات متوهجة بالعلم واليقظة الفكرية، يضيئون بنور التقوى وأخلاق القرآن الكريم عصر التخلف العربي والإسلامي.. كما أنهم قدموا للإنسانية تراثهم الفكري المضيء الذي كان بمثابة مشعل للحضارة والتقدم المعرفي الشامل.
من هؤلاء العلماء يمكننا أن نذكر كلاً من: الشيخ جمال الدين الأفغاني، والإمام المجدد محمد عبده والمصلح الاجتماعي عبد الرحمن الكواكبي، والشيخ المستنير محمد رشيد رضا، والإمام عبد الحسين شرف الدين، والعلامة محسن الأمين، ومفتي الجزيرة السورية الشيخ محمد سعيد العرفي، والسيد محمد حسين راغب الذي نحن بصدد إضاءة شخصيته الآن.
لقد أطلق السيد محمد حسين راغب مقول تلخص الموقف الذي كنا نتحدث عنه برمته، إذ قال: «إن أحوج مانكون إليه في عصرنا الراهن هو الالتزام بالفكر العروبي الأصيل، على أسس تنبع من وحدة الأمة العربية على اختلاف طوائفها ومذاهبها الدينية وأجناسها وأعراقها وأنسابها».
ولكن.. ولكي نفهم شخصية السيد محمد حسين راغب على نحو جيد، دعونا نرجع قليلاً إلى الوراء لنرى كيف أنه، عندما كان طفلاً صغيراًن وعلى الرغم من الظروف الخشنة التي كان يعيشها، كان يعلق الكيس القماشي في رقبته ويذهب إلى (شيخ الكتّاب) ليتعلم القراءة والكتابة، ويحفظ القرآن الكريم، وماينبغي له أن يحفظ من كتب الحديث والتفسير التي كانت متوفرة في أيامه.
كتب المؤرخ ناجي بزي عن هذه المرحلة من حياة السيد محمد حسين راغب مايلي:
«في حوالي منتصف العقد الثالث من القرن العشرين بدأت المسيرة إلى حلب، وكانت راحلته دابة هزيلة.. ويغادر قرية (الفوعة) التابعة لقضاء إدلب، ليسافر عليها إلى حلب، وأحياناً لاتتوفر له الدابة فيسير على قدميه غائصاً في الوحل، مرتعشاً من البرد.. وكان الطريق إلى حلب والعودة منه مناسبة جيدة لتذكر وحفظ ماقاله الشيخ المعلم في الفوعة أو ما قاله المعلم الأستاذ في حلب الشهباء.
كان يفعل ذلك كله في سبيل تحصيل علوم الدين الإسلامي الحنيف، فلعله كان يدرك، بفطرته، أن العلم سيرفع شأنه وشأن أمته بين الناس، ومن ثم فهو يتحمل الظروف القاسيم لأجل العلم، عن طيب خاطر».
بمجرد ما حصل الفتى محمد حسين راغب على الشهادة الابتدائية سرت في روحه نشوة المعرفة، والقدرة على فك رموزها السحرية، وتعلم بالإسلام بعدما رأى فيه عقيدة صالحة، ومنهاجاً قويماً، ونظاماً يسير عليه فيحفظ لهم العيش الكريم في آخرتهم ودنياهم، ويوصلهم إلى بر الأمان، حيث لاخوف عليهم ولاهم يحزنون.
أقبل السيد محمد حسين راغب على مناهل العلم التي كانت متوفرة في زمانه، وأخذ ينهل منها ما يشبع نفسه، ويشفي غليله، وكان يتتبع أخبار علماء الدين الإسلامي، وبالأخص السيد عبد الحسين شرف الدين صاحب كتاب «المراجعات» الذي انتشر في الأوساط الإسلامية في تلك الأيام.
يضم هذا الكتاب القيّم مجموعة من المراسلات جرت بين السيد عبد الحسين شرف الدين وبين شيخ الأزهر حول الأمور الشرعية المختلف عليها بين الشيعة وأهل السنة.. وبعد التداول بينهما، وإغناء الموضوعات المثارة بالأمثلة والشواهد والأدلة والبراهين المأخوذة عن القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة المتفق عليها لدى الطرفين، توصل شيخ الأزهر إلى يقين بأن الشيعة مسلمون حقيقيون يتبعون الإسلام كما ورد عن النبي الكريم وآل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وبذلك تكون هذه الحوارات والمساجلات ذات الطابع العلمي الحواري البعيدة عن التعصب والتمترس قد أوصلت أصحاب العقول الحرة إلى ضرورة نفي الأقاويل المغرضة التي كانت تصدر عن أناس يرتدون ثياب الإسلام، ولكنهم ضيقو الأفق.
عكف الشيخ محمد حسين راغب على دراسة كتاب «المراجعات» زمناً طويلاً، ووضع عليه شروحاً وهوامش وإيضاحات، ثم انطلق إلى العمل الميداني، من أجل إيصال الإسلام الحقيقي البعيد عن التعصب إلى الناس حيثما كانوا، وذهب به إلى جبال اللاذقية حيث اطلع الناس عليه، وبذلك أزيلت الادعاءات والافتراءات التي كانت سائدة بين الناس عن المذهب الجعفري.
وهنالك، في بلدة القرداحة، انضم الشيخ محمد حسين راغب إلى مجلس العلامة الشيخ عبد الرحمن الخيّر، فكان مجلسهما مجلس علم وثقافة ودين، خالياً من التعصب، وكانا، كلاهما، يؤكدان على ضرورة الدعوة إلى وحدة المسلمين، بغض النظر عن مذاهبهم..
ولعل هاجس توحيد المسلمين قد جعل الشيخ محمد حسين راغب يسافر إلى دمشق ويقيم علاقة وطيدة مع الإمام السيد محسن الأمين.
لم يكن السيد محسن الأمين مجرد عالم ديني مغلق على ذاته، بل كان واحداُ من الشخصيات الاجتماعية والسياسية والدينية البارزة في بلاد الشام كلها، وكان الفرنسيون الذين يحتلون الأراضي السورية يحسبون له ألف حساب كلما فكروا بالقيام بعمل، من شأنه أن يغضب الناس الوطنيين أصحاب العقل المتنور.
وكان بيته في الحي الذي سمي فيما بعد باسمه (حي الأمين) محطة للمسلمين والمسيحيين، ولعلماء السنة والشيعة، ولكافة الوطنيين الغيورين على استقلال سورية ووحدة أراضيها، سواء من كان منهم يقيم في دمشق، أو كان يفد إليها من المحافظات السورية الأخرى.
أعجب السيد محمد حسين راغب بشخصية السيد محسن الأمين، ووجد أن طريقتهما في التفكير والسلوك متقاربة إلى حدود التطابق، فكانت صداقتهما، لهذا السبب، قوية جداً، وأصبحا يعملان معاً في سبيل هذه القضية الدينية والوطنية في الوقت نفسه.
وأقام السيد محمد حسين راغب، علاقة وثيقة مع السيد عبد الحسين الأميني صاحب «الموسوعة الإسلامية – الغدير» وكان يشاوره في كثير من الشؤون الدينية، ويصغي إلى رأيه ويستنير به.
كان السيد محمد حسين راغب يرى (أن معجزة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد تجلت في أنه لم يكتف بتحطيم الأصنام والأوثان التي كان يعبدها الجاهليون معتقدين أنها ستقربهم من الله زلفى، بل إنه أعلن حرية الإنسان والعمل خارج إطار العبودية، فأن تكون عبداً لله الخالق المبدع، فهذا هو الخير بعينه، والحق بعينه، وأما أن تكون عبداً لمن هو بشر مثلك، فذلك هو الذل وذلك هو الهوان. وقرر النبي الكريم المسؤولية الشخصية بدلاً من المسؤولية القبلية في الحقوق والواجبات. وقد جاء في محكم التنزيل: «لاتزر وازرة وزر أخرى»).
وكان السيد محمد حسين راغب يرى، كذلك (أن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قد عالج قضايا الدين والعقل والحياة والاجتماع، وحل مشكلة الأديان – سلمياً – فلم يلغ الأديان السابقة للإسلام، ولم ينقصها، بل اعترف بها وبمعتنقيها).
وكان مولعاً بفكرة التوحيد إلى درجة أنه قال ذات مرة: (لا أعتقد بأنه كان ثمة خلاف بين الخلفاء الراشدين الذين عاشوا حول النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونهلوا من هديه، واتخذوه قدوة في دينهم ودنياهم.. وأرى أن من يسوق لفكرة الخلافات بين الصحابة إنما يعمل لتضليل الأمة الإسلامية).
وكان يؤكد على أن الوطنية ليست بعيدة عن منطق الدين، وأن أبناء الوطن الواحد أقرب إلى بعضهم البعض بغض النظر عن انتماءاتهم، فيقول:
(إن أي سوري، مهما كان انتماؤه الديني أو السياسي، وسواء أكان مسيحياً أو يهودياً أو علمانياً، هو أقرب إلي من أي إنسان آخر في العالم كله، المهم أن يؤمن بسوريا الوطن والإنسان).
ويقول أيضاً: (يجب علينا جميعاً، أن نحقن دم المسلم، ونصون كرامته وعرضه وماله، وأن نغيثه وننصره طالما هو على الحق، فإذا جنح نحو الباطل فلا يجوز لنا أن نؤيده، بل علينا أن ننصحه، وندله على الطريق القويم).
ويقول: (يجب علينا أن نتجاوز عوائق العقل المكبوت، وننطلق إلى عقل منفتح على الآخر، بحيث ندرك ذاتنا ونحافظ على هويتنا ونحلق في سماء ثقافة معرفية حقيقية سامية).
بعد جولاته الطويلة والمتشعبة، وسعيه وراء أهل العلم المستنير، ومشاركته إياهم في وضع الأسس السليمة لمبادئ الوحدة الإسلامية، عاد السيد محمد حسين راغب إلى قرية الفوعة حيث أصبحت داره محجة لطلاب العلم والمعرفة يقصدها كل باحث عن الحقيقة واليقين والكمال في العقيدة، وأصبح يستقبل الناس الحائرين الذين يسألون عن قضايا الدين والدنيا ولايعرفون لها جواباً.
وكان مولعاً بقوله تعالى حينما خاطب نبيه الكريم: (لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك).. وكان له في النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم (قدوة حسنة) لذلك كان يحرص على حضور المناسبات الاجتماعية والدينية والوطنية، ويترجم قول الأئمة (صل من قطعك) إلى واقع عملي، فكنت تراه مع أهله وأقاربه وجيرانه وأهل بلدته، يحضر المجالس الخاصة والمآتم الحسينية والاحتفالات القومية والوطنية والدروس العلمية.
وأما مأدبة الإفطار في الحادي والعشرين من كل سنة.. فكانت مناسبة غالية عليه جداً، إذ كان يحرص على دعوة وجوه العلم والأدب والثقافة في محافظة إدلب كلها إلى الإفطار في بيته، ولم يكن الإفطار بحد ذاته هو هدف مثل هذه الدعوة، بل ما يليه من حوارات وخطابات ومساجلات، وخاصة أن هذه الليلة من ليالي القدر العظيمة، وهي ذكرى استشهاد الإمام علي المرتضى عليه السلام.
وعلى الرغم من اهتمام السيد محمد حسين راغب بالجانب الاجتماعي من حياة الناس، واستغراقه الطويل في كتب الأبحاب الدينية ومايمت إليها بصلة من العلوم الدنيوية، فإنه لم يكن يهمل جانب العبادات في حياة المسلمين، بدليل أنه سعى للمساهمة الكبرى بكل إمكاناته لإعادة بناء وتشييد مشهد الإمام الحسين عليه السلام بحلب (مشهد النقطة)، وإعمار العديد من المساجد وأعمال الخير العامة والخاصة.
ذات يوم سأله أحدهم عن نظام الزكاة في الإسلام، فأجابه بطريقة توحي بسعة المعرفة وبعد النظر، إذ قال له:
(اسمع يا بني، إن أسس هذا النظام المالي قد وضعت في زمن الرسول (ص) وهو الذي نظم موارد الدولة الإسلامية ناظراً إليها كدولة كبرى لها حقوق وعليها واجبات ولابد لها من موارد تتناسب مع واجباتها تجاه الأفراد والمؤسسات المنضوية تحت رايتها.. وأقام بذلك النظام توازناً دقيقاً بين الإنتاج والموارد المالية وواجبات الدولة تجاه الفرد والمجتمع ورسالة الإسلام).
وشرح له بالتفصيل قواعد نظام الزكاة، والجزية وخراج الأراضي الذي ينقسم إلى خراج المساحة وخراج المقاسمة وخرا