صالح العلي – الشيخ المقاوم /1883 – 1950 / م
هاني عبد الرحمن الخير “صحافي وكاتب سوري”
ولد المجاهد الشيخ الجليل صالح العلي عام 1883م في قرية “المريقب” منطقة طرطوس ناحية الشيخ بدر من أبوين كريمين طاهرين ومن أسرة عريقة في النسب لها سمعتها الطيبة العطرة بين الناس.
أما والده الشيخ علي سلمان فهو من شيوخ الجبل الكبار الذين عاهدوا على طاعته والعمل بموجب الشريعة الإسلامية السمحاء وقد بنى مسجداً على نفقته الشخصية ومن حلال ماله ولازمه طوال حياته المديدة متعبداً في محرابه.
وكان مرجعاً ثقة لطالبي الفقه فكان الجعفري وطالبوا المعرفة الصحيحة والعرفان الذوقي يقصدون مسجده من سائر المدن الكبيرة والصغيرة.
والقرى النائية المنسية من أجل أن ينهلوا من ينابيع معرفته الغنية الصافية التي لا تعرف النضوب
إنه عطاء بلا حدود.
وكان يقصده الأهالي من مناطق مختلفة ويحتكمون إليه فيما ينشب بينهم من منازعات وخصومات ويعتبرون رأيه الحصيف القول الفصل والحكم المبرم وبالإضافة إلى مكانة الشيخ علي سلمان والد الشيخ صالح العلي الدينية المرموقة كان زعيم عشيرة (البشارغة) المتواجدة في سائر أنحاء الجبل.
في هذه البيئة العلمية المحافظة على التراث الإسلامي المضيء وعلى السجايا العربية الأصيلة نشأ المجاهد الشيخ صالح العلي فكان لهذه البيئة المسيجة بالمكرمات المروية بألق المروءات أثرها البارز في تكوين شخصيته الفذة التي امتازت بالنبل والشجاعة وإغاثة المظلوم وإنصافه والذود الاستشهادي عن تراب الوطن المقدسي الذي يسير إلى مدارج العلياء وقمم الكرامة والمجد والشموخ في خطوات واثقة
وينتقل الشيخ الجليل علي سلمان إلى جوار ربه الكريم عام 1902م وله من الأبناء الذكور أربعة هم:
– الشيخ محمد كامل – الشيخ صالح – الشيخ عباس – الشيخ محمود
ولم يكن الشيخ صالح العلي حين انتقل والده إلى الرفيق الأغلى قد تجاوز العقد الثاني من عمره ولكن بالرغم من هذه السن الفتية فقد اتفقت آراء الجميع طواعية على أنه خير من يحمل أعباء وطموحات رسالة أبيه الخيرة ويؤديها بأمانة وإخلاص واستقالة لما فيه خير البلاد والعباد وحماية للحضارة والحياة الحرة الكريمة.
ولذلك تنادى بعفوية الأنصار والأهل والأصدقاء وأبناء العشيرة وبايعوه بالزعامة باندفاع وحماسة ومحبة
والحق يقال .. فإن هذا الاختيار كان موفقاً وصائباً فقد ذاع اسمه بعد مدة وجيزة بين الناس وفي محيطه الجغرافي لأنه تحمل برباطة جأش مسؤولية الزعامة التي كانت بالنسبة إليه تعني أن يكون القدوة الحسنة للآخرين والأنموذج الحقيقي للإنسان المكافح المؤمن الذي يضع الفضيلة والأخلاق والشهامة ونكران الذات في المكان الأول دون مواربة وأن حياته الماجدة لتعتبر سفراً نفيساً من أسفار الجهاد المقدسي ومفخرة الدكتور الأديب عبد اللطيف يونس.
وكما هو معروف فقد احتلت جحافل الجيوش الفرنسية مدينة اللاذقية في أواخر عام 1918م وعلى أثر ذلك الحدث الزلزال وجه المجاهد الشيخ صالح العلي دعوة سريعة إلى كوكبة من زعماء ومشايخ ووجهاء جبال اللاذقية والساحل السوري بصورة عامة للاجتماع معه دون إبطاء في بلدة الشيخ بدر التابعة لمدينة طرطوس وقد استجاب للنداء الوطني نداء الواجب والشرف الرجولة الكثير من الشخصيات.
وتحدث إليهم عن خطورة الموقف المستجد وعن احتلال الفرنسيين للساحل السوري وتمزيقهم أعلام وبيارق الثورة العربية شر تمزيق ودوسها بالأحذية العسكرية دون مراعاة للمشاعر الوطنية والطموحات القومية وعن نوايا الفرنسيين الشريرة نحو هذه البلاد الآمنة الوادعة وسعيهم الجدي وعلى مراحل لفصل الساحل السوري عن الوطن الأم سورية وإبقائه مستعمرة لهم من أجل أن ينبهوا الثروات ويشلوا الإرادة الوطنية الحرة.
ثم توجه إليهم –الشيخ صالح العلي – بالسؤال الصريح المباشر عما إذا كانوا يتضامنون معه للتصدي للغزاة القادمين من وراء البحار وبعد مناقشات مستفيضة ومداولات دقيقة اتفقوا جميعاً على اتباع واعية تلقن الغزاة درساً لن ينسوه وأسفر الاجتماع عن القرارات التالية:
– الدفاع عن تراب الوطن الغالي وعن الحرية
– عدم الاستسلام للفرنسيين أو مهادنتهم
– مبايعة الشيخ صالح العلي بالقيادة
وبعد ذلك أسرع الشيخ صالح العلي إلى الأمر الذي لابد منه إلى التنظيم الجهادي المسلح فأنشأ:
– قيادة إدارية برئاسته يعاونه فيها العقداء
– نظام العقداء
– ديوان البريد
– ديوان المجاهدين
– ديوان مال المتبرعين
– كتيبة للتفتيش وضبط الأمور الأمنية والإدارية
– هيئة الأمن والرقابة
– هيئة الدعاية والإعلام
– محكمة عسكرية للثورة
ولقد عمل الشيخ صالح العلي والثوار الذي معه أعمالاً مشرفة استحوذت على إعجاب وتقدير الشعب السوري وكذلك على تعاطف الأحرار العرب وكان من المشاركين معه أيضاً بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية رجال من أبناء اللاذقية والحفة وبعض الأقضية والساحل السوري بصورة عامة من
آل هارون والشريقي ورويحة والبيطار والشيخ علي العباس وتلامذته والمجاهد الشيخ علي سليمان أديب القادم من سويدي أنطاكية وغيرهم.
وبخاصة (آل عدرة) في قضائي طرطوس وبانياس وفي مقدمتهم أحمد المحمود الوجيه المرموق وأولاده الشجعان ويروي المغفور له العلامة الشيخ عبد الرحمن الخير هذه اللقطة الواقعية المستمدة من حصاد ذكرياته الخصبة : “عندما علم الشيخ علي العباس سلمان باحتلال فرنسا بعض النقاط على الشاطئ السوري عام /1918/م عقد في باحة المدرسة اجتماعاً عاماً ضم معلمي المدرسة وطلابها جميعاً وألقى علينا خطاباً حماسياً أعلن فيه إغلاق مدرسة العنازة لأن الجهاد دفاعاً عن الأرض والدين أولى اليوم من الجهاد طلباً للعلم وختم خطابه بقوله : “من شاء الجهاد منكم فليلحق بي إلى ثورة الشيخ صالح العلي”
وفي هذا الشأن يقول السياسي أكرم الحوراني في مذكراته ما لفظه:
“وكنا نتابع بإصغاء واهتمام شديدين القصص الرائعة لثورة الشيخ صالح العلي وكيف أنه أباد حملة فرنسية عن بكرة أبيها في وادي جهنم.
وفي هذا الصدد فقد نظم المجاهد الشيخ صالح العلي قصيدة حماسية من وحي هذه المعركة الشهيرة نقتطف منها هذه الأبيات:
حول الطرف دون “وادي جهنم” فالمنايا على ضواحيه حوم
وتصفح “ذي قارة” ما هو إلا خبر من حديثه قد تقدم
زحف الجند من فرنسا الحربي بشظايا نار وجيش عرمرم
وجموع يضيق عن بعضها الرحب أتت تفتدي بلادي مغنم
صرخة من فمي دوت في بني الغرب بأن صرح مجدكم قد تهدم
وجموع يضيق عن بعضها الرحب على الغاصبين فهو محرم
وبالرغم من سقوط دمشق بيد الفرنسيين بعد معركة ميسلون الخالدة التي استشهد بها وزير الحربية
يوسف العظمة بتاريخ 24 تموز عام 1920 حيث دخل الجيش الفرنسي إلى دمشق بعد ظهر الأحد
في 25 تموز فقد دامت ثورة الشيخ صالح العلي التي ظلمها التاريخ من أواخر عام 1918 حتى أواخر
1921 إذ جند الفرنسيون بعد أن تجرعوا كؤوس الهزيمة المريرة افي العديد من المعارك الطاحنة
حملة عسكرية كبيرة مجهزة بالطائرات وبأحدث الأسلحة الفتاكة فطاردت هذه الحملة الثوار وقتلت منهم دون شفقة الذين وقعوا بين أيدي جنودها كما حرقت الكثير من قرى الجبل.
وبدأ الفرنسيون يعملون بوتائر متسارعة لمنع التعاون الوثيق بين الشيخ صالح العلي وبين قائد ثورة
جبل الزاوية شمال سورية إبراهيم هنانو حيث كانا يتبادلان المعلومات وينظمان الخطط المشتركة لإلحاق الهزيمة بالفرنسيين فكانت النتيجة أن سارعت القوات الفرنسية إلى تضييق الخناق على ثورة الشيخ صالح العلي وحصرها بين فكي كماشة أي بين قواتهم في الشرق وقواتهم الساحلية في الغرب مع حشد عسكري جبار تمكنوا من جمعه لأن ثورة الجبل العلوي بقيادة الشيخ صالح العلي وأعوانه بدأت تشكل خطراً ماحقاً له انعكاساته على مستوى الداخل السوري “دمشق –حمص-حماه-حلب” لذلك عززت المدفعية وسلاح الفرسان وأشركوا سلاح الطيران في الوقت نفسه وفق خطة محكمة للقضاء على الثورة بحيث لم تعد الإمكانات متكافئة بين طرفي الصراع ورجحت الكفة الفرنسية بصورة واضحة بالرغم من شراسة هذه المعلومات التاريخية كما وردت في كتاب البحث عن الذات لمؤلفه الباحث منذر الموصلي:
نحن الآن في شهر حزيران عام 1921 وهنا بدت الكفة الفرنسية هي الراجحة الآن حيث سيطر العدو على “فقر” و”شيخ سليمان” ولكن بعد أن دفع ثمناً باهظاً حيث خسر 14 جندياً ومنهم الكولونيل دوم.
وتتالت الخسائر حيث تمت السيطرة الفرنسية على “أبو رياس” وخسر الفرنسيون “15” قتيلاً و64 جريحاً وهي خسائر فادحة بالأرواح.
وانعكست هذه المستجدات الطارئة على نشاط الثوار الذين كانوا يقاتلون بحماسة منقطعة النظير تحت راية الشيخ الثائر صالح العلي فالذخيرة بدأت تنفذ والإمدادات القادمة من حلب ودمشق وحماة تكاد تكون معدومة وبدورها شددت فرنسا الحملات والمداهمات على منازل الفلاحين في قرى المنطقة من أجل إلقاء القبض على الشيخ صالح العلي أو دفعه إلى تسليم نفسه.
وعمدت فرنسا إلى إجراءات وحشية تعسفية فلجأت إلى هدم المنازل ومصادرة المواشي وحرق المحاصيل الزراعية من أجل أن يعترف الأهالي بمكان وجود الشيخ المجاهد.
وأمام هذه الفظائع والأهوال التي ارتكبتها فرنسا بحق الأبرياء آثر المجاهد الشيخ صالح العلي أن يسلم نفسه ويفتدي بحياته كل الذين يتعرضون للموت وإرهاب الدولة الغازية التي تزعم أنها تمثل الحضارة الجديدة والمدينة الحديثة وكان استسلام الثائر الشيخ صالح العلي في أيلول عام 1921 مع سبعة تبقوا من أنصاره قيد الحياة.
وبعد ذلك لازم الشيخ الجليل المجاهد صالح العلي بيته للصلاة والعبادة وتوجيه الشعب للعمل المجدي المنتج وحين حصلت سورية على استقلالها في 17 نيسان عام 1946 حصل الشيخ الثائر صالح العلي على أرفع وسام في الدولة وأطلق اسمه على العديد من الشوارع والساحات والمدارس في سورية.
وكرمه القائد الخالد حافظ الأسد بإقامة تمثال له على مفرق الشيخ بدر وتذكر ثورته في الكتب المدرسية على أنها من أهم الثورات الشعبية التي شهدتها سورية في زمن الاحتلال الفرنسي لسورية.
والجدير بالذكر أن المجاهد الشيخ صالح العلي بالرغم من اعتكافه في عرينه بالجبل كان يتفاعل
مع الأحداث الكبرى التي تقع في وطنه فكان أول من يلبي نداء الواجب الوطني دون وجل أو تردد
وأول من يسارع لنجدة الوطن المكبل بالقيود آنذاك وحينما قام الفرنسيون باعتداءاتهم الوحشية على دمشق
عام 1945م ابرق المجاهد الثائر صالح العلي إلى الجهات الرسمية تلك البرقية الشهيرة التي قال فيها:
“سيوف المجاهدين تتململ بالأغماد ونفوسهم في غليان واضطراب لا نقبل أن تمتهن كرامة الأمة وتخرق حرمة الاستقلال إننا للمعتدين بالمرصاد وسيرى الظالمون أي منقلب ينقلبون”
وكان لهذه البرقية الجريئة صداها الطيب المؤثر في نفوس أبناء سورية حيث رفعت المعنويات وشحنت النفوس بالعزيمة والتفاؤل والثقة بحتمية الانتصار المبين على جيش الاحتلال.
واستكمالاً لهذا الموقف الشجاع فإننا نشير إلى البرقية التي أرسلها المجاهد سعد الله الجابري رئيس مجلس النواب آنذاك يقول فيها:
“إن برقيتكم قد هزّت الضمير الوطني وأيقظت الشعور القومي وهيّجت في نفوس المخلصين حب الجهاد والرغبة في الاستشهاد “
وانتقل الشيخ إلى جوار ربه في 13 نيسان عام 1950م بعد أن أمضى عدة أشهر في المشافي السورية واللبنانية حيث أشرف على معالجته الطبيب الألماني كارل كورت الأخصائي بالقلب والشرايين بإيعاز من رئيس الجمهورية الأسبق هاشم الأتاسي ودفن الشيخ المجاهد في مزرعته “الرستين” قرب الشيخ بدر
بمحافظة طرطوس تحت أفياء قبة كبيرة بجوار مسجد بناه الشيخ في حياته.