عضو المجمع العلمي العربي بدمشق , أحد علماء اللغة , فقد كان ضليعاً في اللغة بصيراً بمفرداتها وتراكيبها .
هو محمد سليم بن محمد تقي الدين بن محمد سليم الجندي مفتي معرة النعمان وحمص . ولد في معرة النعمان , ونشأ في حجر والده حتى بلغ السابعة من العمر , ثم تعلم القرآن الكريم على شيوخ المعرة فأتمه عليهم . ثم دخل المكتب الرشدي وهو مكتب الحكومة إذ ذاك وقد تسنى له اجتياز سني الدراسة الأربع في سنتين وأخذ الشهادة .
ثم تفرغ للدراسة في المسجد الكبير في المعرة , فقرأ على الشيخ صالح بن رمضان ومن بعده على ابنته بعض دروس الا جرومية وكتاب شرح الغاية للخطيب الشربيني في الفقه الشافعي وبعض دروس النحو , وقرأ القرآن والتجويد على الشيخ حسن بن أحمد المطر المعري وهو أعلم أهل بلده في القراءة وقتئذ , وقد استظهر أكثر القرآن الكريم , وحفظ متن العوامل والإظهار للبركوي والكافية لابن الحاجب والفية ابن مالك في النحو ومتن أيساغوجي والسلم في المنطق ومتن الرحبية في الفرائض ومتن الجوهرة والأمالي في التوحيد والعقائد ومتن الزبد في الفقه الشافعي .
وكان والده رحمه الله كلما ظفر بقطعة جيدة من الشعر كتبها وحضه على حفظها . وقد أولع بشعر
أبي علاء المعري منذ حداثة سنة وحفظ منه شيئاً كثيراً , وكان في عهد الحداثة والشباب سريع الحفظ
ما سمع بيتاً أو بيتين من الشعر الجيد إلاّ رسخ في حافظته , وقد تخرج بالشعر والأدب واللغة بما يدرسه وحفظه من شعر أبي العلاء وغيره .
ثم ابتدأ بقرض الشعر في نحو الثالثة عشرة من عمره وظل ينسج على هذا المنوال ويحتذي على هذا المثال إلى أن كتب الله عليه مفارقة المعرة فهاجر مع والده إلى دمشق في عام 1319ه ووضع فيها عصي الحاضر المتخيم وأقام فيها . وقرأ على جماعة من علمائها الأعلام وعاشر طائفة من فضلائها وأدبائها وكتابها وشعرائها وأعيانها وذوي الظرف منها .
وشرع في التفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة على جهابذة العلم في دمشق منهم الأستاذ العلامة الفقيه الشيخ محمد شكري الأسطواني فقرأ عليه كتاب مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر وشرح السراجية في الفرائض وشرح ابن عقيل على الفية أبن مالك وقرأ على الشيخ عبد القادر بدران كتاب التلويح شرح التوضيح في الأصول لسعد الدين التفتازاني وشرح المختصر في علوم المعاني والبيان والبديع وشرح
شيخ الإسلام على الخزرجية في العروض والقوافي .
وقرأ على الأستاذ العلامة الشيخ عطا الكسم مفتي دمشق كتاب الدر المختار شرح تنوير الأبصار مع أكثر الحاشية رد المحتار وشرح المرآة اللازميري في الأصول .
وظل الأمر كذلك إلى أن عين في عهد الحكومة العربية منشئاً أول ثم مميزاً ثم جعل أستاذاً للأدب العربي في مدرسة تجهيز الذكور في دمشق , وبقي إلى عام 1940 فأحيل على التقاعد لبلوغه سن الستين وكان وسبق له أن انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي كما أنه خلال أيامه السابقة وظف أستاذاً للآداب في مدرسة اللاييك وفي مدرسة جمعية العلماء وعين أستاذاً للدروس العربية في كلية الآداب ودرّس فيها القواعد العربية والبلاغة والخطابة . ثم عين ناظراً للكلية الشرعية في دمشق ثم مديراً لها .
كان في جميع هذه الأطوار التي قطعها في حياته شديد التواضع لين الجانب , وكان شديد الخشية من الله مواظباً على الفرائض والواجبات الدينية شديد الغيرة على مصلحة الإسلام والعرب وكل وطن اسلامي
لم يقترف شيئاً من المنكرات في جميع حياته , وكان يقنع باليسير ويشكر على القليل والكثير , ويرضى من الوفاء باللقاء , ولم يبذل ماء وجهه قط لأحد لأنه يقابل الحسنة بمثلها إن عجز عن ضعفها , ويحتمل السيئة ويغضي عن الهفوة ما وجد إلى ذلك سبيلاً .
وفي عام 1941 منحته الحكومة السورية وسام الاستحقاق تقديراً للجهود التي بذلها طوال ثلاثين عاماً
في تعليم اللغة العربية .
ولع في فاتحة حياته ولعاً شديداً بالشعر نظماً وقرضاً ثم نظم بعض القصائد في موضوعات مختلفة فصادفت قبولاً من بعض الأدباء وغيرهم , فأقتضى ذلك إلى أن يكثر الناس طلب تواريخ من لينقشوها على حجارة القبور لموتاهم حتى ملّ من ذلك وسئم قول الشعر فأمسك عنه .
أما النثر فقد استطاع على كثرة أعماله وقلة أعوانه وضيق أوقاته أن يضع بعض الكتب والرسائل وأن ينشئ بعض المقالات في مواضيع مختلفة منها (المنهل الصافي في العروض والقوافي) وقد جمع في هذا الكتاب من مسائل هذا العلم ما لم يجتمع في غيره ورتب مسائله ترتيباً محكماً حتى جعله كالسلسلة المتصلة لكل أحد فهم مسائله بأسلوب تهواه النفوس وتهوي إليه القلوب وقد تم تأليفه وانتهى وأعده للطبع .
ومنها كتاب جامع لأكثر ما تشتت من مسائل هذا العلم وقد حرص فيه على جمع الأشباه والنظائر وإدخال كل مسائلة في بابها ورتبه على أسلوب يسهل معه الرجوع إلى ما يريده الباحث من مسائله (ولم يتم بعد)
ومنها رسالة في أحكام (ما ومن) وقد استوفى كل ما يتعلق بهما من الأقسام والأحكام . وهي من الدروس التي ألقاها في كلية الآداب .
ومنها رسالة في (الكرم) جمع فيها كل ما يتعلق بالكرم من حين يكون يغرس إلى أن يثمر وينضج ويتخذ طعاماً أو شراباً , وذكر ما لكل جزء من أسماء في كل طور وما يعرض له ورتبه على ترتيب الكرم الطبيعي ليسهل الرجوع إليه وقد يجد الباحث فيها ما لا يجده في غيرها . وقد تمت وطبعت في مجلة المجتمع العلمي في دمشق .
ومنها (عدة الأديب) وهي ثلاثة أجزاء صغيرة جمع فيها طائفة من كلام البلغاء والحكماء والعلماء والشعراء وشرحها شرحاً وافياً وقد شاركه في تأليفها محمد الداوودي وطبعت عام 1345ه.
ومنها (عمدة الأديب) وهي كتب متعددة جمع في كل واحد منها ما يتعلق بكاتب واحد أو شاعر واحد
من أخباره وأشعاره ودراسة أدبه وقد تم بعضها منها (امرؤ القيس,وعبد الله بن المقفع,والنابغة الذبياني,
وعلى بن أبي طالب) وقد طبعت جميعها .
ومنها شرح وتحقيق (رسالة الملائكة) لأبي العلاء المعري وتفسير الشواهد فيها وبينا قائليها وتراجمهم وقد طبعت في دمشق عام 1363ه.
ومنها ترجمة (أبي العلاء المعري) وأخباره ودراسة أشعاره ولم يطبع , وهو أجمع كتاب لأخبار أبي العلاء ودراسة أدبه, وفيه تحقيق كثير لما كتب فيه أو نسب إليه , وتصحيح لكثير مما وقع فيه العلماء من الخطأ والأخبار .
ومنها (رسالة في الطرق) وهذا الغرض لم يرد فيه لأحد من المتقدمين كتاباً ولا رسالة وقد سأل كثيراً من أوعية العلم : هل رأى أحد منهم شيئاً على هذا القبيل ؟ فقالوا: لا . وذكر فيها أسماء الطرق وأقسامها وأنواعها في السهل والجبل والأودية والموارد وغيرها . وقد طبعت معظمها في مجلة المجمع العلمي العربي ومنها رسالة في الأودية ومسايل المياه جعلها ملحقة برسالة الطرق تتميماً للفائدة .
ومنها (رسالة في المعلمين) وهي على وشك الإتمام وقد اشتملت على كثير من أخبارهم ونوادرهم ومزاياهم المحمودة والمذمومة وعلى منزلتهم عند الخلفاء والأمراء والأعيان والناس , وربما كانت اجمع رسالة في هذا الموضوع .
وألف كتباً أخرى في مباحث لغوية وغيرها :
منها كتاب إصلاح الفاسد من لغة الجرائد وتم طبعه في عام 1343ه.
ومنها رسالة الأطعمة و الأشربة في بلاد الشام وهي لم تطبع بعد .
ومنها رسالة العادات في بلاد الشام وهي لم تطبع بعد .
وأما المقالات فقد نشر الكثير منها في مجلة المجمع العلمي ومجلة الهلال المصرية ومجلة العرفان ومجلة الرابطة الأدبية وغيرها .
وقد وضع رسائل متعددة تشمل على دراسة جماعة من أعلام الأدباء والشعراء كجرير والفرزدق والأخطل وعمر بن أبي ربيعة وزهير والأعشى والحطيئة والخنساء وحسان وأبي تمام والبحتري وأبي نواس وشرح كثيراً من قصائدهم إلا أن اعتلال صحته حال بينه وبين إنجاز ذلك .
أنموذج من شعر محمد سليم الجندي
أبعد ما جفت الأقلام بالقدر تحاولين دفاع الحادث النكر
الصيف ضّيعت ما ترجين من لبن وهل يفاد بضوء الشمس في السحر
وكيف حالة من ولّت شبيبته في الهزل وهو يريد الجد في الكبر
كرت عصور فلم نحمد مغبّتها ولا اتعظنا بما فيها من العبر
واليوم حاق بنا من كل ناحية من الكوارث ما يكفي لمعتبر
ومن يبت لقضاء الله والقدر مستسلماً تأته الأزراء بالقدر
الله أكبر ما أشقى الحياة إذا لم تلف محفوفة بالعز والخطر
إنما الدهر حوض نحن آخره فما ترى فيه غير الأسن والكدر
يا أيها القوم ما أوهى عزيمتكم حتى كأنكم موتى من الخور
وكيف ترضون أن تطوى صحيفتكم على الصغار وأنتم سادة البشر
موتوا لتحيوا ولا تحيوا لتنتظروا كتائب الموت تأتيكم على السرور
فالموت أفضل للإنسان من دعة وان يعيش أليف الذل والحذر
وقد يصيب الفتى بالجد بغيته أن واصل السعي في الآصال والبكر
جدوا لا يغنكم في المجد ما اكتسبت آباؤنا الغر في أيامها الغرر
فأفضل الناس من في الأرض جثته ونفسه فوق هام الشمس والقمر
وما لنا وقت غفلاً لا نشابههم من المزايا بغير الطول والقصر
إن مر وقت ولم نزدد به شرفاً فذاك من أشأم الساعات في العمر
لو اتفقنا لو فقنا إلى رشد لكن تأصل فينا عارض الوحر
حتى اتفقنا على أن لا اتفاق لنا في الدهر إلا على التفريق والضرر
وكم رأينا شعوباً جمة رجعت بعد التآلف بالتوفيق والظفر
أكلما حاولت إيقاظنا فئة نرجي إليها سهام اللوم والهذر
وبعد ذلك نرجو أن يكون لنا من الحياة نصيب غير محتقر
هذى طريق إذا ظلنا نسير بها فنحن فيها لغير الموت لم نسر
حتى نعود بلا عين ولا أثر كا (ما) تميم بغير اسم ولا خبر
حسين راغب